1990
منذ ربع قرن تقريبا، حين كان عمري خمس قرن (عشرون عاما)، اشتغلت مدرب كرة الطائرة في مخيم صيفي بمنطقة “نيو إنجلند”. كانت السنة هي 1990، حيث لم تدم لياقتي أكثر من 5 دقائق. كان هناك دائما توعك يمكنني إلقاء اللوم عليه في موضوع لياقتي البدنية. إجمالا، لم يختلف ذلك الصيف عن باقي فصول الصيف السابقة
وحدث مرة أن كنت أجري بمحاذاة البحيرة، فإذا بقدمي تنزلق، وأقع بعدها في المياه الضحلة. بشكل غريزي غطيت وجهي بيدي الاثنتين مخافة الاصطدام بقعر البحيرة. لكن مرفقاي ارتدا إلى الوراء مما جعلهما يعلقان في الرمال لينخلع كتفي الأيمن من مكانه. أرجعته إلى مكانه بكل ما تطلب ذلك من ألم، واضطرت بعدها إلى الخلود إلى الراحة لمدة أسبوع قبل أن أرى الدكتور في آخر المطاف. وفي طريقي إلى المستوصف، تعرضت لحادث سيارة فظيع، دفعني لإكمال طريقي إلى المستشفى في سيارة إسعاف. حظيت بنصيبي من حوادث السيارات. لم تكن لدي أية مسؤولية في إثنين منها، بما في ذلك هذا الحادث، الذي اصطدمت فيه شاحنة كبيرة بمؤخرة سيارتي
وفي المستشفى، أخبروني مرة أخرى أن كتفي انخلعت من مكانها، وأن هيكل سيارتي كان قاب قوسين أو أدنى من إلحاق إصابة مباشرة في رأسي. كنت محظوظا. هناك التقيت لأول مرة بمحامي مغمور، أخذت بطاقته واستمعت لشرح خدماته، ثم أخبرته في حينه أنه لو كان صاحب الشاحنة الذي صدم سيارتي يتوفر على مال، لكان اشترى مكابح لشاحنته. أخبرته أني لا أريد أن أحيى حياتي عن طريق سلب الناس أشياءهم. أردت أن أبتكر لا أن أدمر، ولم أرد أن أكون على صلة بأي انتهازي كيف ما كان
بعد أسابيع قليلة، في الثاني من أغسطس، تلصص علي طفل يبلغ من العمر 6 سنوات بينما كنت منهمكا في تنظيف أسناني بالفرشاة وبدأ يغني “ليس لديك وطن… ليس لديك وطن” وكان أحد زملائي متربصا بي وراء شجرة قد وضع الطفل عليها. كان منظرا سرياليا. اتصلت بوالدي الذي كان ساعتها في الكويت، وشرح لي باختصار أن الغزو العراقي كان مسألة روتينية ستنحل خلال أيام. لكن ذلك لم يحصل أبدا
وهذا ما يقوله الآباء
2014
حاليا أبلغ من العمر خمسي قرن (أربعين سنة)، قضيت الصيف في التعافي من جرح مؤلم آخر (سبب آخر لعدم تمتعي بلياقتي البدنية!). في الصيف الماضي، كنت أودع أطفالي في مخيمهم الصيفي بمنطقة “نيو إنجلند”. وحين أخطأت درج عتبة الباب، علقت قدمي بين الدرج وجذر شجرة بارز بسبب الأمطار الغزيرة. ذهبت لجهة، وقدمي لجهة أخرى. انتهي بي الأمر لكسرها لدرجة أن عظامي برزت خارجا لاستنشاق هواء منعش. في الأخير أقر الطبيب الجراح أن كسري يصعب إصلاحه. وقد تطلب الأمر عدة عمليات جراحية وسنة من العلاج الطبي لأعود إلى طبيعتي مرة أخرى
عندما استعدت عافيتي، جاءت مشاكل أخرى غير متوقعة تطرق باب حياتي، هذه المرة بقوة وعنف. قام شخص صاحب نظرة ضيقة للواقع، ويذكرني بمحامي سنة 1990 المذكور أعلاه، بتقديم دعوى قضائية ضدي متهما إياي فيها بالكفر والإساءة للأديان، وناشرا فيها عني اتهامات مغلوطة لدى مختلف المؤسسات، وطالبا بفتوى حول عملي الإبداعي ال99. مع الأسف، لم يقم كل من مفتي المملكة العربية السعودية ووزارة الأوقاف الإسلامية في الكويت بواجبهم كما يجب، وأصدروا فتاويهم التي تدين ال99 بناءا على اتهامات وتقارير مغلوطة قُدِّمَتْ لهم. وجاء كل هذا بعد أن تم بث ال99 يوميا وعلى مدار عامين حول العالم. لقد حظيت ال99 بدعم كل من سمو أمير الكويت والرئيس الأمريكي أوباما بالإضافة إلى الأمم المتحدة والمنتدى الاقتصادي العالمي، وذلك لإسهامه في تثبيت جسور التواصل والتسامح بين الثقافات. في الواقع، فقد حصلت ال99 على الموافقات الضرورية من وزارات الإعلام في كل من السعودية والكويت، وتم تمويلها من طرف بنك استثمار سعودي بهيئته الشرعية
بعد الدعوة القضائية الغير متوقعة، انفتح “صندوق باندورا” أمامي كاملا لأجد نفسي وجها لوجه أمام إصدار فتاوي، ثم تهديدات بالقتل عبر تغريدات مرتبطة بداعش والقاعدة. يمكنكم أن تتصوروا الاتصال الذي أجريته مع والديَّ وأطفالي عندما تصدرت أخبار هذه التهديدات الصفحات الأولى للجرائد الكويتية. طلبت من والدي أن ينظرا إلى الجانب المشرق من الموضوع. فعلا، أظهرت الأزمة قوة ال99. يمكن لتهديدات القتل أن تصدر من أطفال يبلغون 13 من العمر قابعين بملابس استحمامهم وراء لوحات مفاتيح حواسيبهم الجهادية في خزاناتهم
اتصل بي ابني، الذي أصبح مدرب مخيم هذا الصيف، وهو في غاية الهلع. ذكر له أصدقاؤه أني توفيت. وأنني ذاهب إلى السجن. لذلك لم أفوت أي جزء من هلعه، وسألته إن كنت توفيت في السجن أم أني سجنت بعد وفاتي. أحاول أن أخفف من مخاوفه بالقول له أن الأمر روتيني
وهذا ما يقوله الآباء
خاتمة
شهدت بداية التسعينات من القرن الماضي إطلاق ديزني لرائعتهم الكرتونية “علاء الدين”. تقول بداية الأغنية الافتتاحية المعنونة ب”ليالي عربية”: “أتيت من أرض، من مكان بعيد، حيث جمال القوافل تنتقل من مكان لآخر، وحيث يمكن أن تقطع إحدى أذنيك إن لم يعجبهم وجهك، هذه غاية الهمجية، ومع ذلك، فذلك هو موطني”. بإطلاق ديزني للفيلم عقب “عاصفة الصحراء”، ظنوا ألا أحد سينتبه للكلمات، وكانوا مخطئين. فقد أدت الاحتجاجات التي كنت من ضمنها إلى تغيير الكلمات لاحقا على أسطوانات “الدي في دي” وشرائط الفيديو
في الأسبوع الماضي، أخذت أطفالي لمشاهدة مسرحية “علاء الدين” الموسيقية في شارع “برودواي”. بعد ربع قرن من إصدار الفيلم، أصبحت الآن كلمات الأغنية الافتتاحية مختلفة. وأنا جالس في مقعدي، لم أتوقف عن التساؤل هل كان من الضروري حقا تغيير الكلمات؟ هل كان علي حقا أن أحتج لتغييرها؟ ألم يكن هناك فعلا من يحاول قطع رأسي لأنه لم يعجب بأفكاري؟
وأنا بصدد كتابة هذه المقالة، أستعد للعودة إلى الكويت للإجابة على اتهامات الكفر والإساءة للأديان، موازاة مع تحويل وزارة الإعلام الكويتية للعديد من شركات الإنتاج للنيابة العامة بدعوى خرق هذه الشركات لقانون الإعلام السمعي والبصري
فليبارك الله الكويت وليبعد قوى الظلام عن إعاقة التجديد والإبداع، وليجعل وزارة الإعلام تفهم أنه باسم حماية ثقافتنا، فإنها تظل المسؤولة الوحيدة عن اغتيالها من خلال تخويف المبدعين والمستثمرين في الإبداع. لماذا يجب على أي كان أن يستثمر في المحتوى الإعلامي إن كان المنتجون في آخر المطاف سيحولون إلى مكتب النيابة العامة مع احتمال سجنهم؟ أليس من السهل الإبقاء على صناعة دبلجة الأفلام التركية والمكسيكية والأمريكية؟ لكن أليست هذه الدبلجة وسيلة من وسائل إضعاف ثقافتنا؟ وعندما تضعف ثقافتنا، فمن سيكون المسؤول عن ذلك؟ لربما أن هدف الوزارات ليس هو حماية ثقافتنا ونحن لا نعلم
الحلول وفيرة… والمصائب كثيرة