يستريح الأطفال للروتين المعتاد، إذ يمنحهم شعورا بالأمان. وتمثل عطلة نهاية الأسبوع كسرا لروتينهم وخطوة جديدة يتطلعون إليها دائما. لقد عرفت طفولة رائعة، وكانت ماما صبيحة جزءا مهما من جميع أيام الأسبوع.
كانت زياراتي لها كل يوم بعد انتهائي من فروضي المدرسية تشكل لي متعة لا متناهية. أذكر أني كنت أمشى إلى منزلها القريب حاملا كتابا أود أن أقرأه، وأجلس في حديقة منزلها لأقرأ حتى المغيب. وغالبا ماكنت تطاردني لأدخل إلى المنزل حين كانت تراني أحاول أن أستغل آخر خيط من خيوط الشمس لأقرأ كلمة أو اثنتين، وإذا حالفني الحظ، كنت أتناول عشاءا سريعا عندها قبل عودتي إلى المنزل حيث كنت أتظاهر بالجوع لأتناول وجبة ثانية.
غريب كيف يتغير مفهومنا للحظ مع تقدمنا في السن؟! اعتبر نفسي اليوم محظوظا إن تمكنت من التخلي عن إحدى وجباتي.
أذكر آلاف المرات التي اندفعت فيها إلى منزلها وأنا أبكي بسبب الظلم في هذا العالم، لأن أبي قام بشيء لم يعجبني أو أمي قالت ما لم أرد أن أسمعه. لماذا علي أن أقوم بأشياء أكرهها؟ شعري ليس طويلا وثيابي ليست ضيقة، وأنا لست سمينا! الحياة ظالمة. كانت تستمع إلي دائما وتعطيني أفضل النصائح. كانت تهدئني وتذكرني أنه مهما حصل فعلي أن أطيع والدي لأنهما يحرصان على تقديم الأفضل لي دائما. لطالما شعرت بأن الأمور تصبح أكثر عقلانية حين كانت هي تقولها، لأنها كانت تستمع إلي دائما، وبقيت تستمع إلي.
كانت سهرة الأربعاء، أي الليلة التي تسبق عطلة نهاية الأسبوع في الكويت مخصصة لماما صبيحة. كان والدي يسمحان لي باختيار كتاب والذهاب للنوم عندها، وكانت تسمح لي بالسهر أكثر بقليل من الوقت المخصص لذلك عادة، وخاصة إذا ماكنت أقرأ. كنت أكبر أحفادها، ولم يكن هناك ما يشغلني عن الصفحات التي كانت تستحوذ تفكيري. كانت تلك الليالي تنتهي دائما بالطريقة نفسها، إذ تسمح لي بالنوم في غرفتها، وكتابي تحت الوسادة، وحين كانت تطفئ الأنوار، كنت أقول: “تصبحين على خير يا ماما صبيحة”، كانت دائما تغفو قبلي.
كان الأربعاء نهارا أنتظره دائما، لأني كنت أعلم أني سأتمكن من أن أقضي صباح الخميس في القراءة.
أذكر أنها دعتني ذات صباح لأنزل معها إلى سرداب بيتها. ونزلنا الدرج، ثم مشينا بالاتجاه المعاكس، وعلى يميننا رأيت حائطا تملؤه أرفف تتكدس عليها الكتب. كنت قد رأيت تلك الكتب من قبل، لكنها لم تكن تعني لي شيئا. حين قالت ماما صبيحة أن تلك الكتب كانت ملكا لأمي التي كانت تعشق القراءة مثلي تماما، تحولت تلك الأوراق إلى كنز غال على قلبي. ابتسمت لي وتركتني هناك أتصفح تلك الكتب بكل انتباه. لقد اعترفت لها بعد سنوات على تلك الحادثة، أن تلك اللحظة كانت مهمة جدا بالنسبة لي، وبالنسبة لعلاقتي بالقراءة.
جدتي مريضة منذ فترة، وكانت تخضع لجلسات علاج، الأمر الذي كان يجعلها تزور المستشفى بانتظام. لكن مهما كانت حالتها الصحية، فإنها كانت تقوم كل خميس بدعوة الجميع إلى مائدتها. عاشت ماما صبيحة على مبدأ الكرم الذي ينادي به الإسلام، وكان قلبها كبيرا، وكانت سخية مع جميع من كان يجلس إلى مائدتها.
لطالما اعتبرت أن يوم الخميس يقدم لي فرصة لأضحك جدتي ولو مرة واحدة خلال زيارتي. وكنت أعلم أنني إذا عجزت عن ذلك بطريق المعتادة، سأتمكن منه حين اشتكي من فكرة تناولنا لطبق الدجاج كل خميس، (إذ كان ذلك اليوم مخصصا دائما لأفضل أطباق السمك). لم تكن تسأم قط من هذه الدعابة التي كانت تضحكها دائما، واخترت أن أعتقد أنها في كل مرة كانت تضحك من صميم قلبها بالفعل.
في الصيف الماضي، سافر والدي إلى بيروت رغم تأزم الوضع هناك بسبب وقوع عملية اغتيال أخرى، أدخلت جدتي إلى المستشفى، وكانت تشعر بالقلق على الأسرة. لكنني أخبرتها أن والدي قرر أن يذهب إلى بيروت لأن تذاكر السفر إلى بغداد قد نفذت. ضحكت جدتي بشدة وارتفع ضغط دمها من جراء ذلك. لقد ابتسمت فقبلت جبينها وودعتها، وبهذا كانت مهمتي قد انتهت.
توفيت ماما صبيحة يوم السبت الموافق 12 يناير وتركت ثمانية أولاد وثلاثين حفيدا وثلاثة وعشرين ابنا لهؤلاء. لقد كانت محور حياة هذه العائلة، وكانوا يحبونها كثيرا. في هذا السبت الحزين، أعاد التاريخ نفسه. وبينما كان ذهني شاردا، تركتني جدتي من جديد وحيدا مع كتبي من دون التفوه باي كلمة، لقد غفت قبلي، قبلنا جميعا.
اليوم هو أول يوم أربعاء أقضيه من دونها… لن يكون هناك كتب لنتشارك قراءتها، ولن نتناول السمك غدا، لكنني سأفكر فيها أكثر من قبل.
تصبحين على خير يا ماما صبيحة.
باي ماما
بدموع الدكتور نايف عبد الرحمن المطوع